فصل: تفسير الآيات (115- 116):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (103):

{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)}
{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} يعني: صلاة الخوف، أي: فرغتم منها، {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} أي صلُّوا لله {قِيَامًا} في حال الصحة، {وَقُعُودًا} في حال المرض، {وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} عند الحرج والزمانة، وقيل: اذكروا الله بالتسبيح والتحميد والتهليل والتمجيد، على كل حال.
أخبرنا عمرو بن عبد العزيز الكاشاني، أنا القاسم بن جعفر الهاشمي، أنا أبو علي محمد بن أحمد اللؤلؤي، أنا أبو داود السجستاني، أنا محمد بن العلاء، أنا ابن أبي زائدة، عن أبيه، عن خالد بن سلمة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكُر الله على كل أحيانه».
{فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ} أي: سكنتم وأمنتم، {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أي: أتموها أربعًا بأركانها، {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} قيل: واجبًا مفروضًا مقدرًا في الحضر أربع ركعات وفي السفر ركعتان، وقال مجاهد: أي فرضًا مؤقّتًا وقتَّه الله عليهم.
وقد جاء بيان أوقات الصلاة في الحديث، أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد الطوسي، أنا أبو بكر عبد الله بن هاشم، حدثنا وكيع، أنا سفيان، عن عبد الرحمن بن الحارس، عن عياش بن أبي ربيعة الزرقي، عن حكيم بن حكيم عن عبَّاد بن حُنَيفْ، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمَّني جبريلُ عند البيت مرتين فصلّى بي المغرب حينَ أفطر الصائم، وصلّى بي العشاءَ حينَ غابَ الشّفقُ، وصلّى بي الفجرَ حين حَرُمَ الطعامُ والشرابُ على الصائم، وصلّى بي الغد الظهرَ حين كان ظلُّ كلِّ شيءٍ مثله، وصلّى بي العصَر حين كان ظِلُّ كل شيء مثليه، وصلّى بي المغربَ حينَ أفطرَ الصائم، وصلّى بي العشاء ثُلُثَ الليل الأول، وصلّى بي الفجرَ فأسفر، ثم التفتَ إلي قال: يا محمد هذا وقتُ النبيين من قبلك، الوقتُ ما بين هذين الوقتين».
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو بكر بن الحسن الحيري، أنا وكيع، أنا حاجب بن أحمد، ثنا عبد الله بن هشام، ثنا وكيع ثنا بدر بن عثمان، ثنا أبو بكر بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سائلا أتاه فسأله عن مواقيت الصلاة، قال: فلم يردَّ عليه شيئًا ثم أمر بلالا فأذن ثم أمره فأقام الصلاةَ حين انشقَّ الفجرُ فصلى، ثم أمره فأقام الظهرَ، والقائل يقول: قد زالت الشمس أو لم تزل، وهو كان أعلم منهم، ثم أمره فأقام العصرَ والشمس مرتفعةٌ بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغربَ حين وقعت الشمس، ثم أمره فأقام العشاءَ حين سقوط الشفقِ، قال: وصلى الفجرَ من الغد، والقائل يقول: طلعتِ الشمسُ أو لم تطلع، وصلى الظهر قريبًا من وقت العصر بالأمس وصلى العصر والقائل يقول قد احمرَّتِ الشمسُ وصلّى المغربَ قبل أن يغيبَ الشفقُ الأحمر، وصلى العشاء ثُلُثَ الليل الأول، ثم قال: أين السائل عن الوقت؟ فقال الرجل: أنا يا رسول الله، قال: «ما بين هذين الوقتين وقت».

.تفسير الآية رقم (104):

{وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)}
قوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} الآية، سبب نزولها أن أبا سفيان وأصحابه لمّا رجعوا يوم أُحد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة في آثارهم فشكوا ألم الجراحات، فقال الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا} أي: لا تضعُفوا {في ابتغاء القوم} في طلب أبي سفيان وأصحابه، {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ} تتوجّعُون من الجراح، {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ} أي: يتوجّعُون، يعني الكفار، {كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} أي: وأنتم مع ذلك تأملون من الأجر والثواب في الآخرة والنصر في الدنيا ما لا يرجون، وقال بعض المفسرين: المراد بالرجاء الخوف، لأن كل راج خائف أن لا يدرك مأموله.
ومعنى الآية: وترجون من الله أي: تخافون من الله أي: تخافون من عذاب الله ما لا يخافون، قال الفراء رحمه الله: ولا يكون الرجاء بمعنى الخوف إلا مع الجحد، كقوله تعالى: {قل للذين آمنوا يغْفِرُوا للذين لا يْرجُونَ أيام الله} [الجاثية- 14] أي: لا يخافون، وقال تعالى: {ما لَكُم لا ترجُون لله وقَارًا} [نوح- 13] أي: لا تخافون لله عظمتَه، ولا يجوز رجوتُك بمعنى: خفتُك ولا خفتُك وأنتَ تريد رجوتك {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}.

.تفسير الآية رقم (105):

{إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)}
قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} الآية، روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يقال له طعمة بن أبيرق من بني ظفر بن الحارث سرقَ درعًا من جار له يقال له قتادة بن النعمان، وكانت الدرع في جراب فيه دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى الدار، ثم خبأها عند رجل من اليهود، يقال له زيد بن السمين، فالتمست الدرع عند طعمة فحلف: بالله ما أخذها وما له بها من علم، فقال أصحاب الدرع: لقد رأينا أثر الدقيق حتى دخل داره، فلما حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق إلى منزل اليهودي فأخذوه منه، فقال اليهودي دفعها إلي طعمة بن أبيرق، فجاء بنو ظفر وهم قوم طعمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه أن يُجادل عن صاحبهم، وقالوا له: إنك إن لم تفعل افتضح صاحبنا، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعاقب اليهودي. ويُروى عن ابن عباس رضي الله عنهما في رواية أخرى أن طعمة سرق الدرع في جراب فيه نخالة فخرق الجراب حتى كان يتناثر منه النخالة طول الطريق فجاء به إلى دار زيد السمين وتركه على بابه، وحمل الدرع إلى بيته، فلما أصبح صاحب الدرع جاء على أثر النخالة إلى دار زيد السمين فأخذه وحمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهمّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يد زيد اليهودي، وقال مقاتل: إنّ زيدًا السمين أودع درعًا عند طعمة فجحدها طعمة فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} بالأمر والنهي والفصل، {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} بما علّمكَ الله وأوحى إليك، {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ} طعمة {خَصِيمًا} معينًا مدافعًا عنه.

.تفسير الآيات (106- 108):

{وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)}
{وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ} ممّا هممتَ من معاقبة اليهودي، وقال مقاتل: واستغفر الله من جِدَالِكَ عن طعمة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}.
{وَلا تُجَادِلْ} لا تُخاصم، {عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} أي: يظلمون أنفسَهم بالخيانة والسرقة، {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} يريد خوانًا في الدرع، أثيمًا في رميه اليهودي، قيل: إنه خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم، والمُرادُ به غيره، كقوله تعالى: {فإنْ كنتَ في شكٍّ مما أنزلنا إليك}، والاستغفار في حق الأنبياء بعد النبوة على أحد الوجوه الثلاثة: إمّا لذنب تقدم على النبوة أو لذنوب أمته وقرابته، أو لمباح جاء الشرع بتحرِّيهِ فيتركه بالاستغفار، فالاستغفار يكون معناه: السمع والطاعة لحكم الشرع.
{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ} أي: يستترون ويستحيون من الناس، يريد بني ظفر بن الحارث، {وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} أي: لا يستترون ولا يستحيون من الله، {وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ} يقولون ويُؤَلِّفون، والتبييت: تدبير الفعل ليلا {مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} وذلك أن قوم طعمة قالوا فيما بينهم: نرفع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يسمع قوله ويمينه لأنه مسلم ولا يسمع من اليهودي فإنه كافر، فلم يرضَ الله ذلك منهم، {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} ثم يقول لقوم طعمة:

.تفسير الآيات (109- 114):

{هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)}
{هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ} أي: يا هؤلاء، {جَادَلْتُم} أي: خاصمتم، {عَنْهُم} يعني: عن طعمة، وفي قراءة أُبيّ بن كعب: عنه {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} والجدال: شدّة المخاصمة من الجَدْل، وهو شدة الفتل، فهو يريد فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج، وقيل: الجدال من الجَدَالة، وهي الأرض، فكأن كل واحد من الخصمين يروم قهرَ صاحبه وصرعه على الجدالة، {فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ} يعني: عن طعمة، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} إذا أخذه الله بعذابه، {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا} كفيلا أي: من الذي يذبُّ عنهم، ويتولى أمرهم يوم القيامة؟ ثم استأنف فقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا} يعني السرقة، {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} برميه البريء، وقيل: ومَنْ يعمل سوءًا أي: شركًا أو يظلم نفسَه: يعني: إثمًا دونَ الشركِ، {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ} أي: يتبْ إليه ويستغفرْهُ، {يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} يعرض التوبةَ على طعمة في هذه الآية.
{وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا} يعني: يمين طعمة بالباطل، أي: ما سَرَقْتهُ إنّما سرقه اليهودي {فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} فإنّما يضرُّ به نفسَه، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} بسارق الدرع {حَكِيمًا} حَكَم بالقطع على السارق.
{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً} أي: سرقة الدرع، {أَوْ إِثْمًا} يمينه الكاذبة، {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ} أي: يقذف بما جَنَى {بَرِيئًا} منه وهو نسبة السرقة إلى اليهودي {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا} البهتان: هو البهت، وهو الكذب الذي يُتحيرّ في عِظَمهِ، {وَإِثْمًا مُبِينًا} أي: ذنبًا بينًا، وقوله: {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ} ولم يقلْ بهما بعد ذكر الخطيئة والإثم، ردَّ الكنايةَ إلى الإثم، أو جعل الخطيئة والإثم كالشيء الواحد.
قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {لَهَمَّت} لقد هَمّتْ أي: أضمرت، {طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} يعني: قوم طعمة، {أَنْ يُضِلُّوكَ} يخطئوك في الحكم ويلبسوا عليك الأمر حتى تدافع عن طعمة، {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ} يعني يرجع وَبَالُهُ عليهم، {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} يُريد أن ضرره يرجع إليهم، {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} يعني: القرآن، {وَالْحِكْمَة} يعني: القضاء بالوحي {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} من الأحكام، وقيل: من علم الغيب، {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}.
قوله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} يعني: قوم طعمة، وقال مجاهد: الآية عامةٌ في حق جميع الناس، والنّجوي: هي الإسرار في التدبير، وقيل: النجوى ما ينفرد بتدبيره قوم سرًّا كان أو جهرًا، فمعنى الآية: لا خيرَ في كثير ممّا يدبرونه بينهم، {إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} أي: إلا في نجوى من أمر بصدقة، فالنّجوى تكون فعلا وقيل: هذا استثناء منقطع، يعني: لكن من أمر بصدقة، وقيل النجوى ها هنا: الرجال المتناجون، كما قال الله تعالى: {وإذ هم نجوى} [الإسراء- 47]. {إلا من أمر بصدقة} أي: حثّ عليها، {أَوْ مَعْرُوفٍ} أي: بطاعة الله وما يعرفه الشرع، وأعمالُ البِرّ كلّها معروف، لأنّ العقول تعرفها.
{أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد الطوسي، أنا محمد بن حماد، أنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سالم هو ابن أبي الجعد، عن أم الدرداء رضي الله عنها، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبرُكم بأفضلَ من درجة الصيام والصدقة والصلاة»؟ قال: قلنا بلى، قال: «إصلاحُ ذاتِ البين. وفساد ذات البين هي الحالقة».
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران، أنا إسماعيل بن محمد الصفار، أنا أحمد بن منصور الرمادي، ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أمه أم كلثوم بنت عقبة، وكانت من المهاجرات الأوَل، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس بالكذاب من أصلح بين الناس فقال خيرًا أو نَمَى خيرًا».
قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} أي: هذه الأشياء التي ذكرها، {ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} أي: طلب رضاه، {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ} في الآخرة، {أَجْرًا عَظِيمًا} قرأ أبو عمرو وحمزة {يُؤْتِيه} بالياء، يعني: يؤتيه الله، وقرأ الآخرون بالنون.

.تفسير الآيات (115- 116):

{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا (116)}
قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} نزلت في طعمة بن أبيرق وذلك أنه لمّا ظهرت عليه السرقة خاف على نفسه من قطع اليَدِ والفضيحة، فهرب إلى مكة وارتدّ عن الدين، فقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} أي: يخالفه، {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} التوحيد والحدود {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} أي: غير طريق المؤمنين {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} أي: نكله في الآخرة إلى ما تولَّى في الدنيا، {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.
رُوي أن طعمة بن أبيرق نزل على رجل من بني سليم من أهل مكة يقال له الحجاج بن عُلاط، فنقب بيته فسقط عليه حجر فلم يستطع أن يدخل ولا أن يخرج حتى أصبح، فأُخذ ليقتل، فقال بعضهم: دعوه فإنه قد لجأ إليكم فتركوه فأخرجوه من مكة، فخرج مع تجار من قضاعة نحو الشام، فنزلوا منزلا فسرق بعض متاعهم وهرب، فطلبوه وأخذوه ورموه بالحجارة حتى قتلوه، فصار قبره تلك الحجارة، وقيل: إنه ركب سفينة إلى جدة فسرق فيها كيسًا فيه دنانير فأخذ، فألقي في البحر، وقيل: إنه نزل في حرّة بني سليم وكان يعبد صنما إلى أن مات فأنزل الله تعالى فيه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا} أي: ذهب عن الطريق وحُرم الخير كله، وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما إنّ هذه الآية نزلتْ في شيخ من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبيَّ الله إني شيخ متهتك في الذنوب، إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفتهُ وآمنت به، ولم أَتّخذ من دونه وليًّا ولم أوَاقع المعاصي جرأة على الله، وما توهمت طرفة عين أني أُعجز الله هربًا، وإني لنادمٌ تائبٌ مستغفرٌ فما حالي؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.